مقال بليغ للمفكر سلمان العودة ...
المختصر / سافرت يوماً بصحبة صغاري سفراً خاصاً للاستجمام، ومنح الصغار بعض حقهم، ومنح النفس بعض حقها فيهم، فنحن نحتاجهم كما يحتاجوننا أو أكثر، ووجدت نفسي مضطراً مرة أن أقوم بإعداد الشاي أو الحليب، وأخرى تنظيف الطاولة، أو توزيع الحلوى، أو صناعة الساندويتش, وكانت فرصة جميلة لاقتطاف بعض ثمرات السعادة بممارسة الحياة العادية والاستمتاع بعفويتها.
أدركت أننا نتحدثعن السعادة كثيراً، وأن ثَمّ عشرات، بل مئات الكتب تتناول السعادة منمنظور فلسفي نظري، في تحديدها، وكشف علاقتها بالمتعة أو اللذة، أوالوجدان..
وأن ثمة جدلاً حول ماهيتها ومصدرها، أهي الصحة أم الحب أم المال أم الوظيفة أم الزواج أم النجاح.
وقد يغيب عنّا أن السعادة هي إحساس داخلي بالفرح، نبرمج عليه نفوسنا، ونلتقط خيوطه من كل مناسبة مهما كانت صغيرة، وكأن السعادة هي "عادة " الاستمتاع بالأشياء؛ متعةً تتجاوب معها كل مكونات الإنسان، النفسية والعقلية والجسدية، أو جلّها, حتى التوافه من الأشياء التي نتعالى عنها أحياناً لأننا كبار، كبار القدر أو السن أو الاهتمام، علينا أن نعيد النظر في موقفنا منها، وأن نقبل الاستمتاع بها مهما كانت صغيرة..
كن طفلاًيستمتع بكأس شاي يشربه، معطياً الزمن حقّه، أو إصبع شوكولاته يتذوقه، أووجبة يتعاطاها بسرور منفرداً مع نفسه، أو مع من يحب (لَيْسَ عَلَيْكُمْجُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا)[النور/61].
كنطفلاً يتطلع للسفر، ويحلم بالأشياء الجميلة، ويضحك للنكتة دون أن يدققفيها إن كانت تستحق أو لا تستحق، ويتذكر أنه سينام فَيُسرّ لهذه المنحةالربّانية التي ستدخله في سبات يستعيد به حيويته وتوازن قواه، أو يرى فيهأطياف من أحبهم:
وَإِنّي لَأَستَلقِي وَما بِيَ نَعسَةٌ
لَعَلَّ خَيالاً مِنكِ يَلقى خَيالِيا
تذكر أن أمامك عملاً جيداً ستنجزه، وأن نجاحاً صغيراً ينتظرك؛ إنه كتاب تقرؤه، أو مقال تعده، أو دورة تحضرها، أو مناسبة تشارك فيها.
حاول أن تقرأ الجمال في وردة تتفتح، أو بساط أخضر من الزرع يمتد أمام ناظريك، أو ماء ينساب في جدوله، أو عصفور يغرد, أو طفل يلهو ببراءة فيخطئ ويصيب.
نحن نشكّل بثقلنا ورسميتنا وعدم فهمنا لأنفسنا أكبر عائق يحول دون سعادتنا، وليس عدونا هو من يصنع ذلك!
سنكون أكثر سعادة حين نكون أكثر براءة وعفوية في التعبير عن مشاعرنا، لأنفسنا، ولمن حولنا، ولمن نعرف، ولمن لا نعرف
التعبير عن المشاعر ليس بوحاً بأسرار نووية!
سنكون أكثر سعادة حين نتخلى عن كبريائنا وتعاظمنا, ونتواضع ونستمع إلى حديث النفس واحتجاجها على تجاهلنا لضرورتها ومتطلباتها!
سنكون أكثر سعادة حين نلقي الأحلام المثالية المتعالية عن الواقع في خططناالمستقبلية، ونأخذ موقعنا الطبيعي في الحياة دون احتقار أو ازدراء للنفس،ودون نفخ أو تضخيم بعضها حيث لا تستحق.
سنكون أكثر سعادة حين ندقق في اللحظة التي نعيش فنقرأ فيها مليارات النعم، هل قلت مليارات؟ كلا!! بل ترليونات..
سنن العطاء الإلهي المتدفق، ترليونات الخلايا العاملة في أجسادنا، ومثلها في الهواء والماء والبر والبحر والجو، فضلاً عن المشاعر والأحاسيس التي لا تدخل في عالم المادة؛ الإيمان مثلاً، الحب، الذوق، اللغة، الحنين، الإعجاب، الأمل...
ربما نكون أكثر سعادة حين ندرك أن السعادة ليستطرداً يأتينا بالبريد من حيث نريد أو لا نريد، ولا شهادة أو مستوى نحصلعليه، إنها إحساس اللحظة الآنية إذا أحسنّا استثمارها, وقررنا أن نجعلهاسعيدة، وأن نطارد أشباح الحزن والهم والغم والخوف والكره والحقد والبغضاءوالحسد, والقائمة الطويلة من المشاعر السلبية التي تغتال فرحتنا.
ونكون أكثر سعادة عندما نقرر أن نكون أكثر سعادة.