إيران.. من الشَّاهِ البَهْلَوِيِّ إلى الشَّاهِ الفَقِيه!..
كان محلَّ استغراب مني في البداية ـ وأنا أرصد تطورات الأوضاع في إيران، وتحديدًا حديث زملائنا المحللين السياسيين الإيرانيين أو المقيمين في إيران فترة طويلة ـ اختتام مرشد الجمهورية السيد الخامنئي ببكائيَّة وجَّهَها لصاحب الزمان (المقصود بهذا التعبير الإمام الثاني عشر المتغيب عن الأنظار)، فالذي تبادر إلى ذهني أنَّ الخامنئي ختم الخطبة بذلك كأجواء شعائرية عاطفية تستدعيها إثارة مشاعر الجمهور لتعاليم الخطبة إجمالاً، لكنَّ التفسير الآخر حمل معنًى إضافيًّا بَدَا واضحًا بعد ذلك في أحداث منتصف ليلة السبت، بعد خطبة السيد الخامنئي وحتى كتابة هذه السطور.
أمَّا المعنى الذي فُسِّرَ به قولُ الخامنئي في بكائيته ـ إني ضعيف أمام صاحب الزمان, فماذا أفعل وقد بذلتُ ما أستطيع ـ هو أنه مقدمة وجدانية هامة لمشهد القتل وسحق المعارضة الإصلاحية، وبالذات الشبابية المحتجَّة على تزوير الانتخابات, وأنَّ الخامنئي لم يكن يعني الإنذار وحسب، بل أن تكون مقدمة لدموية صعبة قدَّرتها أطراف الحكم المحافظ بأنَّها تستدعي حرب تصفية جديدة وعنيفة وتاريخية لإعادة تنظيم بيت الثورة من الداخل، بحسب فكر ومشروع ورؤَى التيار المحافظ، الذي يرأسه الخامنئي، والذي أسقط في الخطبة الشهيرة كل المساحات المشتركة التي من الممكن أن تحتضن القوى المتصارعة مع التيار المحافظ، وحمَل بشدة وتهديد مباشر على الحركة الإصلاحية، وحمَّلها مستقبل الأحداث والدماء التي أُهرقت في شوارع طهران.
هل تغير ميزان المعادلة
كنت قد توقعت في مقال "طهران الخضراء" أن يحسم المحافظون قضية الصراع لمصلحتهم مع بقاء حالة فكرية وشرخ واسع لا يمكن التنبؤ بآثاره المستقبلية وما الذي سيصنعه في وجدان الشعب وثوَّار الحركة الإصلاحية، حتى لو حَسمت الدماء الجولة الأولى فإنَّ المفاجأة تلك الروح الفدائية التي ظهر بها الشباب الإيراني في طهران وشيراز وغيرها، وأمام حركة تعتيم ضخمة وبقدرات ذاتية ردَّ الاستشهاديون الخُضر العُزَّل من السلاح ومن العِصِيِّ بقوة على زئير مدرَّجات الخامنئي، والأهم من ذلك أن السلاح الفعَّال بكثافة وتأثير بالغ والذي لا يمكن أن ينساه الشعب بسهولة هو أنهم فَدَوْا أصواتَ الحرية بأجسادهم التي تناثرت مسفوكةَ الدماءِ بجوار دفاتر المدرسة والجامعة.
وهذه هي القضية الإنسانية البالغة الرمزيَّة. ومهما اختلفت الرؤى والتقديرات والتساؤلات الضخمة: إلى أين سينتهي المشهد ومن سيقتطف الثمرة في نهاية الأمر.. إلاّ أنَّها حين تتوجَّه لأصل المُضَحِّين من أولئك الشباب الصغار الذين أصرُّوا على سؤال واحد: مَنْ سَرَقَ صوتي أيُّها الدكتاتور؟ (يقصدون به السيد نجاد)، ثم يقابلهم إطلاق النار من الباسيج بلباسهم المدني، أو الشرطة العسكرية، فَتُدَاهِمْ أجسادَهم، وتُسقطهم على الأرض، فهذا تعبير بالغ يُسمع دَوِيُّهُ في تكبيرات أحياء طهران عند منتصف الليل، مذكرةً بأنَّ الثورة التي أسقطت ظلم الشاه مستعدة لإسقاط ظلم الشاه الفقيه.
موسوي.. هل ألقى كلمته الأخيرة؟
لربما أنَّ الحسابات التحليلية كانت تتوقع انسحاب موسوي من رمزية انتفاضة حزيران، لكنَّ إصرارَ الرجل وإعلانَه بأنه على استعداد للشهادة، في رسالة روحانية تضامنية مع شهداء الانتفاضة وزملائهم، ووصيتَه لهم بالاستمرار، حتى لو حدث شيء أعاد تنظيم الصورة مُجددًا، وعزَّز الشرخ القائم في مدرسة تنتمي للثورة الإسلامية. وكان ردُّ موسوي القوي على خطبة الخامنئي أعادت بَعْثًا وجدانيًّا وفكريًّا لحركة الحرية الثائرة في إيران.
وهنا يبرز سؤالٌ أشار له خاتمي في خطابه التضامني مع شهداء ميدان الحرية الإيرانية، الذي زحزح من التاريخ المعاصر أحداث ميدان "تيامن منت" في بكين، وأحلَّ طهران بديلًا عنه، وهو تحذيره من أنَّ هذا المُضِيِّ الدمويِّ والاستبدادي لن تقف ردود الأفعال عليه عند الصراع على الانتخابات، ولكنها ستتجاوزه إلى النظام ككل. ورغم أنَّ دلائل تحذيرات خاتمي أصبحت مُشَاهَدَةً على الأرض، إلا أنَّ الفريق الآخر لا يريد أن يعطيَ فرصةً لتجديد النظام من الداخل، والاستجابة للضغوط الشعبية التي رفضت الاستبداد باسم الفقيه بديلاً عن الاستبداد العلماني الأمريكي.
إعادة القيم الفلسفية للثورة.. هل انتهى الزمن؟
مع خروج منتظري من معتكفه الاختياري ودعمِه للانتفاضة، بعد أن حوصر في عهد الخميني، ووُضع في الإقامة الجبرية إِثْرَ اعتراضاته على قضية ولاية الفقيه، وهي قضية حديثة معاصرة في الفكر الإمامي، انتخبها الخميني بإحلال القدسية الدينية على منصب المرشد كمرجع لا يراجع بديلًا عن قيم المحاسبة والاجتهاد التي تشمل المرجع والتي تضمنها في الأصل فكر علي شريعتي وآخرون في الفكر النهضوي الشيعي، وهو ما تحولت به إيران الجمهورية إلى خلافه، فاستبدل الاستبداد الديني مكان الاستبداد العلماني الأمريكي، واستُبدلت مفاهيم الوَحدة الإسلامية إلى الوحدة الطائفية ومشاريعها التوسعية بخلفيتها الإقليمية القومية وتقاطع مصالحها مع الاستكبار العالمي (بحسب المصطلح الثوري الإيراني)، وبنى تحالفًا أسقط أفغانستان والعراق، وتشارك في إثارة وتفريق الحالة الوطنية في العالم العربي والآسيوي.
ثورة الحرية إلى أين الطريق؟
كما قلنا سابقًا فإنَّ مآل الأمور لا يمكن أن يُستشرف الآن في توجُّه هذا الفريق أو ذاك، ومستقبل آثار هذه الثورة على عمق المستقبل الإيراني، حتى لو سُحقت على يد المحافظين، والقلق الدائر في عواصم الغرب السياسية لايزال في حالة ذهول وخشية من أنَّ تطوُّر الأمور سيُسقط ما عُقد بالفعل من صفقات مع المحافظين في طهران أو تهدئة بعض الملفات, وما يقوم به الغرب هو مجرد نفاق أمام هذه الثورة العزلاء عن السلاح، لكي تضمن واشنطن والغرب نوعًا من الدعاية الكاذبة لعلاقتها بضمير الشعوب، أو أنَّها تسعى لإيجاد خط مبكر مع هذا الفريق لكسْب المعركة فعليًّا.
ومن الطبيعي أن تلجأ طهران إلى اتهام الغرب وافتعال المعارك الإعلامية والسياسية, بل ونشْر أخبار تفجيرات إرهابية متزامنة مع حركة الثورة الشبابية، لأنَّ هذا الحرج المتزايد من أنَّ انتفاضة حزيران إنما هي من داخل مبادئ الشعب وحركته الشبابية، ولأجل استقلال الإرادة الوطنية من الداخل.. هذا المفهوم يمثِّل في حدِّ ذاته هزيمةً للنظام الذي يسحق ويقتل أبناءه وبناتِه بنضالهم السلمي المجرَّد, ولذا فإنَّ استدعاء الصراع مع واشنطن ضرورة, وهذا لا يعني أنَّ الوجود الأمريكي والغربي ضيفُ شرف في المِنطقة وفي الجوار المهيمن عليه في الخليج، بل سيبقى مترصِّدًا لقفزةِ دخول، لكن الحالة القائمة بطبيعتها هي الآن في وضع مستقل، وإن اقتسم العالم الخبر الإعلامي كلغة مشتركة تتناقلها الإنسانية ويبقى من يَصِيدُ فيها لحسابه الخاص أو لحساب مبادئه.
الأنظمة.. والمثقفون العرب العراة
طرفان اختلفا وتبادلا التغطية.. إعلام عربي يتبع لحالة استبداد وظلم مرتكِس فيها من رأسه لأَخْمَصِ قدميه، مخلوطة بشراكته واعتماده على وليِّ الأمر الأمريكي.. لا يريد أن يقرأ الصفحة الأخرى من قِيَمِ الاحتجاج والتمرد على تبضيع الإنسان في سوق الأوطان التي زرعها في بلده، والآخر مثقَّف عربي موالٍ للنظام في إيران أصبح يُزَايِدُ على انتفاضة حزيران وحرية الشعب الإيراني، ويتهمهم بأنهم مجموعة من التجَّار وأبناء التجَّار ثاروا على المستضعَف المسكين محمود نجاد, فكان الجواب الذي لا نزال نرصده ونقرأه مفحِمًا لأولئك المثقفين العراة في تلك الصورة المتكررة، ولكنه أبلغ في رمزيتها لفتاة طهران التي صرخت: فقط أعيدوا لي صوتي.. فجاءتها رصاصة حليف المثقف العربي لتتمدد وتلفظ أنفاسها، ولم يكن في يديها إلاّ لفافة خضراء نَقَشَتْ عليها اسم "الحرية".. ولأنَّ اليقين الأكبر عند الإنسانية على اختلاف مداراتها أنها دائمًا تقول: من يبذل نفسه ليمنح الحرية لشعبه هو صاحب القضية.. فعندها ليصمت المثقف.
منقول