الحمد لله معز من أطاعه واتَّقاه ومذل من أضاع أمره وعصاه ، أحمده على جزيل كرمه وما أولاه وأشكره على آلائه الجسيمةِ وما أسداه ، وأشهدُ أن لا إله إِلاَّ الله وحده لا شريك لَهُ لا رب لنا سواه ولا نعبد إِلاَّ إيَّاه ، وأشهد أَنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله خير عبدٍ اجتباه وأفضلُ رسولٍ اصطفاه ، اللهم صلِّ وسلم عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه ومَن كَانَ هواهُ تبعاً لهُداه
عبدالمحسن بن محمد القاسم
فَإِنَّ الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثوابٍ وعقابٍ أحدُ أركانِ الإسلام ومبانيه العظام ، وقد جعل الله بين يدي الساعةِ أشراطاً تدل على قربِها ، ولقد كَانَ نبيكم يعظِّمُ أمر الساعةِ فكان إذا ذكرَها احمرَّتْ وجنتاهُ وعلا صوته واشتد غضبه وقد أبدى فيها وأعاد ، وكان الصحابةُ رضوان الله عليهم يتذاكرون أمر الساعة ، قال حذيفةُ : اطلع النبي علينا ونحن نتذاكر فقال: "ما تذاكرون؟" قلنا: نتذاكرُ الساعة ، ولما أكثر النبي من ذكرِها وتعددت الآيات بقربِها أشفق الصحابةُ من قيامها عليهم.
وقد ظهر كثيرٌ من أشراطِها وتحقق ما أخبر بِهِ المصطفى فكل يومٍ يزدادُ فيه المؤمنون إيماناً بِهِ وتصديقاً لَهُ ، إذ يظهر من دلائل نبوَّته وآياتِ صدقه ما يوجب على المسلمين التمسك بِهَذَا الدين الحنيف ليتأهبوا للنقلةِ فَإِنَّ الساعةَ قد قرُبت وبدت أماراتُها ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ] اقتربتِ الساعةُ وانشَقَّ القمرُ [ .
وإذا ظهرت الأشراطُ الكبرى تتابعت كتتابُعِ الخرز في النظام إذا انفرط عقده يقول النبي : "وأيها كانت قبل صاحبتِها فالأخرى على إثرِها قريباً" رواه مسلمٌ .
وفي المسند: (الآيات خرزاتٌ منظوماتٌ في سلكٍ فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضا).
أَيُّهَا المسلمون:
إِنَّ من أماراتِ الساعةِ بعثة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه أَنَّهُ قال: "بُعثتُ أناْ والساعةُ جميعاً وإن كادت لتسبقني" ، ومنها موته محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أظلمت الدنيا في عيونِ الصحابةِ بوفاته ، ومن أشراطِها ظهورُ فتنٍ عظيمةٍ يلتبس فيها الحقّ بالباطل ويتزلزل الإيمان ويمرُّ الرجل بقبر الرجل ويتمرغ عَلَيْهِ لتغيّر الأحوال وتبدل الشريعة ، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب القبر هذا ، وليس بِهِ إِلاَّ البلاء.
يقول ابن مسعودٍ : "سيأتي عَلَيْكُم زمانٌ لو وجد أحدكم الموت يباع لاشتراه" ويقول النبي : "إِنَّ بين يدي الساعةِ فتَناً كقطعِ الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمِناً ويُمسي كافراً ، ويمسي مؤمِناً ويصبح كافراً" [رواه أحمد].
وآخر هَذِهِ الآمَّة يصاب بالبلاء يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ أمَّتكم هَذِهِ جعل عافيتها في أوَّلِها وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكِرونَها ، وتجيء الفتنةُ فيرقق بعضها بعضاً ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هَذِهِ هَذِهِ ، فمن أحبَّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يؤمن بالله واليومِ الآخر".
أَيُّهَا المسلمون :
من أشراطِ الساعة: كثرةُ الزلازل ، ويقع خسفٌ بالمشرق ، وخسفٌ بالمغرب ، وخسفٌ بجزيرةِ العرب ، ويكلم السباعُ الإنس ، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراكَ نعله ، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده ، وتخرج دابة على النَّاس ضحى تكلم النَّاس أَنَّ النَّاس كانوا بآياتِ ربِّهم لا يوقِنون ، ويقرب الزمان فتكن السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، والجمعة كاليوم ، واليوم كالساعة ، والساعةُ كاحتراق السعفة ، ويكثر النساء ويقل الرجال ، حَتَّى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ، ويخرج يأجوج ومأجوج ، في الصحيحين عن زينب بنت جحشٍ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: "لا إله إِلاَّ الله ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردمِ يأجوج ومأجوج مثل هَذِهِ وحلَّقَ بأصبعيه الإبْهام والتي تليها" ويقل العلم ويظهر الجهل حَتَّى لا يعرف النَّاس فرائض الإسلام ، يقول النبي : "يدرس الإسلام كَمَا يدرس وشي الثوب، حَتَّى لا يدري ما صيام ولا صلاةٌ ولا نسكٌ ولا صدقةٌ ، ويُسرى على كتاب الله في ليلةٍ فلا يبقى في الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من النَّاس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هَذِهِ الكلمة يقولون لا إله إِلاَّ الله فنحن نقولُها" رواه الحاكم وقال صحيحٌ على شرطِ مسلم.
ويستهان بالمحارم ، ويستخف بالنواهي ، فيشرب الخمر ، ويفشو الزنا ، ويلقى الشُّحُّ في القلوب ، ويكثر الهرج وَهُوَ القتل ، حَتَّى لا يدري القاتل فيم قَتل ولا المقتول فيم قُتل ، فقيل كيف يكون ذَلِكَ يا رسول الله؟ قال: "القاتل والمقتول في النار" [رواه مسلم].
وتشرئبُّ أعناق البشر إلى الدنيا فيتطاولون في البنيان ويعرضون عن دين الله فيقع الشرك في هَذِهِ الأمَّةِ وتلحق قبائل منها بالمشركين ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعةُ حَتَّى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمَّتي الأوثان" [رواه الترمذي وقال حديثٌ صحيح].
وإذا انسلخت عن دينِها وأضاعت ملَّتها وتنكرت لشريعتِها ضلت وتلمست الهدى من غير وحيِها يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعةُ حَتَّى تأخذ أمَّتي بأخذ القرون قبلَها شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ" [رواه البخاري] ، ويكثر فيها الدجل والكذب ، ويبعث دجالونَ كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أَنَّهُ نبي ، وتسلب صفاتٌ محمودةٌ في البشر فلا تكاد تؤدى الأمانة فيقال: "إِنَّ في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبَّةِ خردلٍ من إيمان" [رواه البخاري] ، ومن إضاعةِ الأمانة إسناد الأمر إلى غير أهله ، ولا تقوم الساعةُ حَتَّى تنفي المدينة شرارَها كَمَا ينفي الكير خبث الحديد ، وتترك المدينة عامرةً على خير ما كانت لا يغشاها إِلاَّ عوافي السباع والطير وآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانِها –أي المدينة- وحشا –أي خاليةً ليس فيها أحد- حَتَّى إذا بلغا ثنيةَ الوداع خرّا على وجوههما.
أَيُّهَا المسلمون:
ليس بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلقٌ أكبر من الدجال ، وما نبيٌّ إِلاَّ حذَّرَ أمَّتَهُ منه ، وقد كَانَ النبي يتعوذ منه في كُلّ صلاةٍ وقد أكثر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من ذكره لأصحابه ، قال النواس بن سمعان حَتَّى ظنناه في طائفةِ النخل فلما رحنا إليه عرف ذَلِكَ فينا فقال: "ما شأنكم" قلنا: يا رسول الله ذكرتَ الدجال الغداةَ فخفضت فيه ورفعت حَتَّى ظنناه في طائفةِ النخل –أي ناحيته- فقال: "غير الدجال أخوفني عَلَيْكُم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونَكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤٌ حجيجُ نفسه ، والله خليفتي على كُلّ مسلم" [رواه مسلم].
وفي خفقةٍ من الدين وإدابرٍ من العلم يخرج مسيحُ الضلالةِ من جهةِ المشرق فيفر النَّاس من في الجبال ، ويسير في الأرض ، فلا يترك بلداً إِلاَّ دخله إِلاَّ مكةَ والمدينةَ فقد حرم الله عَلَيْهِ دخولَهما كلما أراد أن يدخلهما استقبله ملكٌ بيده السيف صلتاً يصده عنهما على كُلّ نقبٍ من أنقابِهما ملائكةٌ يحرسونَهما ، وترجف المدينةُ ثلاثَ رجفاتٍ فيخرج منها كُلّ منافقٍ وكافر وينزل في السبخة في الجرف ويكون أكثر من يخرج إليه النساء ، حَتَّى إِنَّ الرجل يرجع إلى حميمته وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافةَ أن تخرجَ إلى الدجال.
أَيُّهَا المسلمون:
إِنَّ للدجال فتنةٌ عظيمةٌ وَإِنَّ معه نَهرانِ يجريان أحدهما تراه العين ماءً أبيض والآخر تراهُ العين نار تأجج يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : "فإما أدركن أحد فليأتِ النهر الَّذِي يراه ناراً وليغمص ثُمَّ ليطأطئ رأسه فيشرب منه فَإِنَّهُ ماءٌ بارد" [رواه مسلم].
هذا وَإِنَّ الَّذِي يرى النَّاس أَنَّهُ ماءٌ فَهُوَ نارٌ تحرق ، يمتحن الله بالدجال عباده بما يخلقه معه من الخوارق المشاهدةِ في زمانه ، ويقدره على أشياءَ من مقدوراتِ الله تعالى من إحياءِ الرجل الميت الَّذِي قتله ، ومن ظهورِ زهرةِ الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونَهريه واتباع كنوز الأرض لَهُ ، وأمره السماء أن تمطر فتمطر ، والأرض أن تنبت فتنبت ، ومن لا يستجيب لَهُ يرد عَلَيْهِ أمره ، تصيبهم ألسنةٌ والجدب والقحط والقلةُ وموتُ الأنعام ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، يقع ذَلِكَ كله بقدرةِ الله تعالى ومشيئته ثُمَّ يعجزه الله تعالى بعد ذَلِكَ فلا يقدر على قتلِ ذَلِكَ الرجل الَّذِي أحياه بعد قتله ولا غيره.
يبتلي الرب بِهِ عباده في آخر الزمان فيضل بِهِ كثيراً ويهدي بِهِ كثيراً ، ويكفر المرتابون ، ويزداد الَّذِينَ آمنوا إيماناً ، لبثه في الأرض أربعون يوماً ، يوم كسنة ، ويومٌ كشهرٍ ، ويوم كجمعة ، وسائر أيَّامه كأيامكم وإسراعه في الأرض كغيث استدبرته الريح.
وأما نعته: فشابٌّ جسيمٌ أحرم أجلى الجبهة عريض النحر ، فيه دفأ –أي انحناء- جعد الرأس ، كثير الشعر ، أعور العين ، كأن عينه عنبةً طافية، لا يولد لَهُ ، قال تميم الداري عنه: أعظم إنسانٍ رأيناه قط وأشده وثاقاً مكتوبٌ بين عينيه كافر ، وفي رواية لمسلمٍ ثُمَّ تَهَجَّاه ك ف ر يقرأ ذَلِكَ كُلّ مؤمن كاتب وغير كاتب.
يقول الإمام السفاريني رَحِمَهُ الله تَعَالَى: ينبغي لِكُلِّ عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال لاسيما في زمانِنا هذا الَّذِي اشرأبَّتْ فيه الفتن وكثرت فيه المحن.
إِنَّ العصمةَ من الدجال بالتمسك بالإسلام والتسلح بالإيمان ومعرفةِ أسماء الله وصفاته الحسنى على ضوءِ ما جاء في كتابِ الله وسنَّةِ رسوله ، فالمسيح بشرٌ يأكل ويشرب ، والله تعالى منَزَّهٌ عن ذَلِكَ ، والدجالُ أعور ، وربنا ليس بأعور ، والله لا يراه أحدٌ قبل أن يموت ، والدجال يراه النَّاس مؤمنهم وكافرهم.
أَيُّهَا المسلمون:
أكثِروا من التعوذ من فتنته ومن أدركه منكم فليقرأ عَلَيْهِ فواتح سورة الكهف ، وفي لفظ لمسلم "من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف" ، وفي لفظ "خواتمها" "عصم من الدجال" ، وإذا سمعت بالدجال فانأَ عنه ، ولا تأتِهِ ، فَإِنَّ الرجل ليأتيه وَهُوَ يحسب أَنَّهُ مؤمنٌ فيتبعه مِمَّا يبعث بِهِ من الشبهات.
أَيُّهَا المسلمون:
إذا خرج الدجال في آخر الزمان كثر أتباعه وعمَّتْ فتنته ، ولا ينجو منه إِلاَّ قلة من المؤمنين ، وعند ذَلِكَ ينزل عيسى ابن مريم في شرقي دمشق ، عند المنارة البيضاء ، ويلتقي حوله عبادُ الله المؤمنون ، فيسير بِهِمْ قاصداً مسيح الضلالة ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجهاً بيت المقدس ، فيلحق بِهِ عيسى عند باب لُدٍّ في فلسطين ، فإذا رآه الدجال ذابَ كَمَا يذوب الملح في الماء ، فيقول لَهُ عيسى: إِنَّ لي فيك ضربةً لن تفوتَني.